فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الجصاص:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ}.
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {الدِّفْءُ اللِّبَاسُ} وَقَالَ الْحَسَنُ: الدِّفْءُ مَا اُسْتُدْفِئَ بِهِ مِنْ {أَوْبَارِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا}.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا فِي سَائِرَ الْأَحْوَالِ مِنْ حَيَاةِ أَوْ مَوْتِ.
قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}.
رَوَى هِشَامُ الدَّسْتُوَائِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَكْرَهُ لُحُومَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَكَانَ يَقُولُ فِي {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} إنَّ هَذِهِ لِلْأَكْلِ وَهَذِهِ لِلرُّكُوبِ {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْهَيْثَمِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ لُحُومَ الْخَيْلِ وَتَأَوَّلَ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى حَظْرِ لُحُومِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَنْعَامَ وَعَظَّمَ مَنَافِعَهَا، فَذَكَرَ مِنْهَا الْأَكْلَ بِقوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ثُمَّ ذَكَرَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ وَذَكَرَ مَنَافِعَهَا الرُّكُوبَ وَالزِّينَةَ، فَلَوْ كَانَ الْأَكْلُ مِنْ مَنَافِعِهَا وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مَنَافِعِ الْأَنْعَامِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَخْبَارٌ مُتَضَادَّةٌ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ، فَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَصَابَ النَّاسُ مَجَاعَةٌ، فَذَبَحُوهَا، فَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ وَلُحُومَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ، وَحَرَّمَ الْخِلْسَةَ وَالنُّهْبَةَ. وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْخَيْلِ وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَلَمْ يَسْمَعْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ جَابِرٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ رَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ جَابِرٍ، وَجَابِرٌ لَمْ يَشْهَدْ خَيْبَرَ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ رَوَى عَنْ سَلَامٍ بْنِ كَرْكَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ جَابِرٌ خَيْبَرَ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَأَذِنَ لَهُمْ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ فَوَرَدَتْ أَخْبَارُ جَابِرٍ فِي ذَلِكَ مُتَعَارِضَةً، فَجَائِزٌ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا وَرَدَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا حَاظِرٌ وَالْآخَرُ مُبِيحٌ فَالْحَظْرُ أَوْلَى، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ أَبَاحَهُ فِي وَقْتٍ ثُمَّ حَظَرَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ الْإِبَاحَةَ وَالْحَظْرَ طَارِئٌ عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ، وَلَا نَعْلَمُ إباحة بَعْدَ الْحَظْرِ، فَحُكْمُ الْحَظْرِ ثَابِتٌ لَا مَحَالَةَ؛ إذْ لَمْ تَثْبُتْ إباحة بَعْدَ الْحَظْرِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ هَذَا الْمَعْنَى وَذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَ وَهْبٍ رَوَى عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: خُسِفَتْ الشَّمْسُ بَعْدَ الْعَصْرِ وَنَحْنُ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَبِهَا يَوْمئِذٍ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ابْنُ شِهَابٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ حَزْمٍ وَقَتَادَةُ وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: فَقُمْنَا قِيَامًا بَعْدَ الْعَصْرِ نَدْعُو اللَّهَ، فَقُلْت لِأَيُّوبَ بْنِ مُوسَى الْقُرَشِيِّ: مَا لَهُمْ لَا يُصَلُّونَ وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: النَّهْيُ قَدْ جَاء فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ أَنْ لَا تُصَلِّيَ، فَلِذَلِكَ لَا يُصَلُّونَ، وَإِنَّ النَّهْيَ يَقْطَعُ الْأَمْرَ فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَتَعَارَضَ خَبَرَا جَابِرٍ فَيَسْقُطَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا، وَقَدْ رَوَى إسرائيل بْنُ يُونُسَ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ عَطَاء بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ لُحُومَ الْخَيْلِ، قَالَ عَطَاء: فَقُلْت لَهُ: فَالْبِغَالُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبِغَالُ فَلَا.
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاء ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: «نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلْنَاهُ».
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْمُخَالِفِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ بِهِ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ بِهِ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْحَظْرِ.
وَقَدْ رَوَى بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ{نَهَى عَنْ لُحُومِ الْخَيْلِ}.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَا عَلِمْنَا الْخَيْلَ أُكِلَتْ إلَّا فِي حِصَارٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِلُحُومِ الْخَيْلِ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَشُرَيْحٍ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُطْلِقُ فِيهِ التَّحْرِيمَ وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ كَلَحْمِ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَإِنَّمَا يَكْرَهُهُ لِتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ الْحَاظِرَةِ وَالْمُبِيحَةِ فِيهِ، وَيَحْتَجُّ لَهُ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّهُ ذُو حَافِرٍ أَهْلِيٍّ فَأَشْبَهَ الْحِمَارَ وَالْبَغْلَ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ لَحْمَ الْبَغْلِ لَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ مِنْ الْفَرَسِ فَلَوْ كَانَتْ أُمُّهُ حَلَالًا لَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَلَدِ حُكْمُ الْأُمِّ؛ إذْ هُوَ كَبَعْضِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ حِمَارَةً أَهْلِيَّةً لَوْ وَلَدَتْ مِنْ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ لَمْ يُؤْكَلْ وَلَدُهَا، وَلَوْ وَلَدَتْ حِمَارَةٌ وَحْشِيَّةٌ مِنْ حِمَارٍ أَهْلِيٍّ أُكِلَ وَلَدُهَا؟ فَكَانَ الْوَلَدُ تَابِعًا لِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ، فَلَمَّا كَانَ لَحْمُ الْبَغْلِ غَيْرَ مَأْكُولٍ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ فَرَسًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْخَيْلَ غَيْرُ مَأْكُولَةٍ. اهـ.

.قال الماوردي:

{وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر}.
يحتمل وجهين:
أحدهما: وعلى الله قصد الحق في الحكم بين عباده ومنهم جائر عن الحق في حكمه.
الثاني: وعلى الله أن يهدي إلى قصد الحق في بيان السبيل، ومنهم جائر عن سبيل الحق، أي عادل عنه لا يهتدي إليه، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الأهواء المختلفة، قاله ابن عباس.
الثاني: ملل الكفر. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {وعلى الله قصد السبيل} الآية، هذا أيضًا من أجل نعم الله تعالى، أي على الله تقويم طريق الهدى وتبيينه، وذلك نصب الأدلة وبعث الرسل وإلى هذا ذهب المتأولون، ويحتمل أن يكون المعنى أن مرسلك السبيل القاصد فعلى الله ورحمته وتنعيمه طريقه وإلى ذلك مصيره، فيكون هذا مثل قوله تعالى: {هذا صراط علي مستقيم} [الحجر: 41]، وضد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والشر ليس إليك» أي لا يفضي إلى رحمتك، وطريق قاصد معناه بين مستقيم، ومنه قول الآخر:
فصد عن نهج الطريق القاصد

والألف واللام في {السبيل} للعهد، وهي سبيل الشرع، وليست للجنس، ولو كانت للجنس لم يكن فيها جائر، وقوله: {ومنها جائر} يريد طريق اليهود والنصارى وغيرهم كعبدة الأصنام، والضمير في {منها} يعود على {السبيل} التي تضمنها معنى الآية، كأنه قال: ومن السبيل جائر، فأعاد عليها وإن كان لم يجر له ذكر لتضمن لفظة {السبيل} بالمعنى لها، ويحتمل أن يعود الضمير في {منها} على سبيل الشرع المذكورة وتكون {من} للتبعيض ويكون المراد فرق الضلالة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كأنه قال ومن بنيات الطرف في هذه السبيل ومن شعبها جائر، وقوله: {ولو شاء لهداكم أجمعين} معناه لخلق الهداية في قلوب جميعكم ولم يضل أحد، وقال الزجاج معناه لو شاء لعرض عليكم آية تضطركم إلى الإيمان والاهتداء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول سوء لأهل البدع الذين يرون أن الله لا يخلق أفعال العباد لم يحصله الزجاج، ووقع فيه رحمه الله عن غير قصد، وفي مصحف عبد الله بن مسعود {ومنكم جائر}، وقرأ علي بن أبي طالب {فعنكم جائر}، و{السبيل} تذكر وتؤنث.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)}.
هذا تعديد نعمة الله في المطر، وقوله: {ومنه شجر} أي يكون منه بالتدريج، إذ يسقي الأرض فينبت عن ذلك السقي الشجر، وهذا من التجوز، كقول الشاعر: الرجز:
أسنمة الآبال في ربابه

وكما سمى الآخر العشب سماء، في قوله: الوافر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا

قال أبو إسحاق: يقال لكل ما نبت على الأرض شجر، وقال عكرمة لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت يعني الكلأ، و{تسيمون} معناه ترعون أنعامكم وسومها من الرعي وتسرحونها، ويقال للأنعام السائمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وفي سائمة الغنم الزكاة» يقال أسام الرجل ماشيته إسامة إذا أرسلها ترعى، وسومها أيضًا وسامت هي، ومن ذلك قول الأعشى:
ومشى القوم بالأنعام إلى الرَّو ** حتى وأعيى المسيم أين المساق

ومنه قول الآخر: الكامل:
مثل ابن بزعة أو كآخر مثله ** أولى لك ابن مسيمة الأجمال

أي راعية للأجمال وفسر المتأولون بترعون، وقرأ الجمهور: {ينبت} بالياء على معنى ينبت الله، يقال نبت الشجر وأنبته الله، وروي أنبت الشجر بمعنى نبت، وكان الأصمعي يأبى ذلك ويتمم قصيدة زهير التي فيها: حتى إذا أنبت البقل، وقرأ أبو بكر عن عاصم، {ننبت} بنون العظمة، وخص عز وجل ذكر هذه الأربعة لأنها أشرف ما ينبت وأجمعها للمنافع، ثم عم بقوله: {من كل الثمرات}، ثم أحال القول على الفكرة في تصاريف النبات والأشجار وهي موضع عبر في ألوانها واطراد خلقها وتناسب ألطافها، فسبحان الخلاق العليم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} أي على الله بيان قصد السبيل، فحذف المضاف وهو البيان.
والسبيل: الإسلام، أي على الله بيانه بالرسل والحجج والبراهين.
وقصد السبيل: استقامة الطريق؛ يقال: طريق قاصد أي يؤدّي إلى المطلوب.
{وَمِنْهَا جَآئِرٌ} أي ومن السبيل جائر؛ أي عادل عن الحق فلا يهتدى به؛ ومنه قول امرئ القيس:
ومن الطريقة جائر وهُدًى ** قصد السبيل ومنه ذو دخل

وقال طَرَفة:
عَدَوْلِيّةٌ أو من سَفِين ابن يامِنٍ ** يَجُور بها الملاّح طوْرًا ويَهتدِي

العَدَوْلِيّة سفينة منسوبة إلى عَدَوْلَي قرية بالبحرين.
والعَدَوْلِيّ: المَلاّح؛ قاله في الصحاح.
وفي التنزيل {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} [الأنعام: 153]، وقد تقدّم.
وقيل: المعنى ومنهم جائر عن سبيل الحق، أي عادل عنه فلا يهتدي إليه.
وفيهم قولان: أحدهما أنهم أهل الأهواء المختلفة؛ قاله ابن عباس.
الثاني ملل الكفر من اليهودية والمجوسية والنصرانية.
وفي مصحف عبد الله: {ومِنكم جائر} وكذا قرأ عليّ {ومنكم} بالكاف.
وقيل: المعنى وعنها جائر؛ أي عن السبيل.
ف {مِن} بمعنى عن.
وقال ابن عباس: أي من أراد الله أن يهديه سهّل له طريق الإيمان، ومن أراد أن يضله ثقل عليه الإيمان وفروعه.
وقيل: معنى {قَصْد السبيل} مسيركم ورجوعكم.
والسبيل واحدة بمعنى الجمع، ولذلك أنث الكناية فقال: {ومنها} والسبيل مؤنثة في لغة أهل الحجاز.
قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} بيّن أن المشيئة لله تعالى، وهو يصحح ما ذهب إليه ابن عباس في تأويل الآية، ويردّ على القَدَرية ومن وافقها كما تقدّم.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)}.
الشراب ما يُشرب، والشجر معروف.
أي ينبت من الأمطار أشجارًا وعروشًا ونباتًا.
و{تُسِيمُونَ} ترعون إبلكم؛ يقال: سامت السائمة تسوم سَوْمًا أي رعت، فهي سائمة.
والسَّوَام والسائم بمعنًى، وهو المال الراعي.
وجمع السائم والسائمة سوائم.
وأسمتها أنا أي أخرجتها إلى الرَّعْيِ، فأنا مُسِيم وهي مُسامة وسائمة.
قال:
أوْلى لك ابن مُسِيمة الأجمال ** وأصل السَّوْم الإبعاد في المرعى

وقال الزجاج: أخِذ من السُّومة وهي العلامة؛ أي أنها تؤثر في الأرض علامات برعيها، أو لأنها تُعلَّم للإرسال في المرعى.
قلت: والخيل المسومة تكون المرعيّة.
وتكون المُعَلَّمة.
وقوله: {مُسَوّمِين} قال الأخفش تكون مُعَلَّمين وتكون مُرْسَلين؛ من قولك: سوّم فيها الخيل أي أرسلها، ومنه السائمة، وإنما جاء بالياء والنون لأن الخيل سُوِّمت وعليها ركبانها.
قوله تعالى: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات}.
قرأ أبو بكر عن عاصم: {نُنبِت} بالنون على التعظيم.
العامة بالياء على معنى ينبت الله لكم؛ يقال: نبتت الأرض وأنبتت بمعنًى، ونبت البقل وأنبت بمعنى.
وأنشد الفراء:
رأيت ذوِي الحاجاتِ حول بيوتهم ** قطِينا بها حتى إذا أنبت البقل

أي نبت.
وأنبته الله فهو منبوت، على غير قياس.
وأنبت الغلام نبتت عانته.
ونَبّتَ الشجرَ غرسه؛ يقال: نبِّت أجلكَ بين عينيك.
ونَبّتُّ الصبيّ تنبيتًا رَبّيته.
والمَنْبَت موضع النبات؛ يقال: ما أحسنَ نابِتةَ بني فلان؛ أي ما يَنْبُت عليه أموالهم وأولادهم.
وَنَبَتَتْ لهم نابتةٌ إذا نشأ لهم نشء صغار.
وإن بني فلان لنابتةُ شر.
والنوابت من الأحداث الأغمار.
والنبيت حيّ من اليمن.
والينبوت شجر؛ كلّه عن الجوهريّ.
{والزيتون} جمع زيتونة.
ويقال للشجرة نفسها: زيتونة، وللثمرة زيتونة.
وقد مضى في سورة الأنعام حكم زكاة هذه الثمار فلا معنى للإِعادة.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإنزال والإنبات.
{لآيَةً} أي دلالة.
{لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. اهـ.